القدس: التطهير العرقيّ وأساليب المقاومة | فصل

«القدس: التطهير العرقيّ وأساليب المقاومة» (2023)

 

صدر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» كتاب «القدس: التطهير العرقيّ وأساليب المقاومة»، من تأليف أحمد جميل عزم وآخرين، وتحرير آيات حمدان. يقع الكتاب في 583 صفحة، ويشتمل على مراجع ببليوغرافيّة وفهرس عامّ.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب، من إعداد الباحثة آيات حمدان، بالتعاون مع الناشر.

 


 

منذ استكمال احتلال مدينة القدس قبل أكثر من نصف قرن، إثر حرب حزيران (يونيو) 1967، عملت إسرائيل على تهويد المدينة، بشقّيها العمرانيّ والديموغرافيّ، من خلال شنّ ’حرب ديموغرافيّة‘ ومكانيّة تهدف إلى زيادة عدد السكّان اليهود فيها، وتقليص أعداد السكّان العرب، بأساليب مختلفة من سياسات التوسّع الديموغرافيّ، واستثمار ارتفاع معدّلات خصوبة المرأة اليهوديّة المتديّنة في القدس، الّتي تصل إلى 6.6 في المئة، مع الأخذ بسياسات التضييق على المواطنين العرب، والاستيلاء التدريجيّ على ممتلكاتهم بذرائع مختلفة وطرائق شتّى، وإجبارهم على الهجرة.

استندت إسرائيل في ذلك إلى منظومة قانونيّة وإداريّة ترسّخ هذا التوجّه السياسيّ، وسعت لتفتيت النسيج الحضريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ المقدسيّ؛ بزرع بؤر استيطانيّة داخله، وعزل الشطر الشرقيّ للمدينة عن باقي الضفّة الغربيّة، معتمدةً بناء المستعمرات وجدار الفصل العنصريّ. وتُوِّجَت هذه السياسات بقرار الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب، المتمثّل في نقل السفارة الأمريكيّة من ’تل أبيب‘ إلى القدس عام 2017، والاعتراف بمدينة القدس عاصمة لـ ’إسرائيل‘، ما مثّل تحدّيًا كبيرًا للفلسطينيّين والعرب لا يقلّ خطورة عن وعد بلفور عام 1917؛ لأنّ القدس في جوهر القضيّة الفلسطينيّة، ولأنّ تسوية الصراع العربيّ- الإسرائيليّ تبقى مسألة غير ممكنة من دون إيجاد حلّ عادل ودائم لهذه المدينة. وقد ظهر ذلك بوضوح في انتفاضة الشعب الفلسطينيّ والعربيّ ضدّ القرار الأمريكيّ، وفي الهبّة الشعبية الأخيرة في القدس الّتي جاءت نتيجةً للعديد من الاعتداءات من ناحية، وبسبب سياسة التطهير العرقيّ والمكانيّ والإحلال الديموغرافيّ الممنهجة الّتي تتّبعها إسرائيل في المدينة من ناحية أخرى.

عملت إسرائيل على تهويد مدينة القدس، بشقّيها العمرانيّ والديموغرافيّ، من خلال شنّ ’حرب ديموغرافيّة‘ ومكانيّة تهدف إلى زيادة عدد السكّان اليهود فيها، وتقليص أعداد السكّان العرب...

ففي بداية أيّار (مايو) 2021، دعت جماعات صهيونيّة متطرّفة إلى اقتحام المسجد الأقصى، ضمن ما يُسَمّى «يوم توحيد القدس». تزامنت هذه الدعوة مع حدثين آخرين؛ هما وضع الحواجز الحديديّة في باب العامود، والاستيلاء على منازل عائلات فلسطينية من حيّ الشيخ جرّاح، وذلك بعد أسابيع من الاستيلاء على منازل في حيّ سلوان. وقد أكّدت هذه الهبّة، مرّةً أخرى، محوريّة القدس في الصراع العربيّ- الإسرائيليّ، وارتباطها بالبعد الوطنيّ والروحيّ والهويّة الفلسطينيّة، على الرغم من قرار الضمّ ونقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس، وارتفاع وتيرة موجة التطبيع العربيّة مع إسرائيل، الّتي زادت من إرادة الفلسطينيّين صمودًا ومقاومة.

 

الصراع على المقدّسات 

يأتي هذا الكتاب ليبرز ساحات الصراع على المدينة المبنيّة على التطهير العرقيّ، وآليّات مقاومتها الفلسطينيّة الّتي تتجلّى في الصراع على المقدّسات، والصراع الديموغرافيّ والتطهير العرقيّ المكانيّ والبيئيّ، والحرب على الوعي من خلال تزوير المناهج التعليميّة، والمواقف الدوليّة، ومستقبل الصراع على المدينة.

في جانب الصراع على المقدّسات، تتوالى حرب إسرائيل على المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في المدينة، متمثّلة في حماية اقتحامات اليهود المتطرّفين الاستفزازيّة المتكرّرة للمسجد الأقصى. فقد تكثّفت خلال الأعوام الأخيرة هجمات المستوطنين وزعمائهم السياسيّين، خصوصًا الصهيونيّين الدينيّين، على المسجد الأقصى وساحاته، واقتحاماتهم المتكرّرة من أجل تقسيمه مكانيًّا وزمانيًّا، كما حدث في الحرم الإبراهيميّ في مدينة الخليل، إضافة إلى نَهْب الأماكن المقدّسة وتهريب محتوياتها.

قد حاولنا في هذا الكتاب الإضاءة على الجذور التاريخيّة لمسألة تسريب الأوقاف المسيحيّة، من خلال العودة إلى الفترة العثمانيّة. أمّا في ما يتعلّق بالمقدّسات الإسلاميّة، فإنّ الكتاب يقدّم قراءة في تطوّر النظرة الصهيونيّة لموضوع تقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود، مع التركيز على المنطقة الشرقيّة من المسجد، الّتي أصبحت تمثّل، في الفترة الأخيرة، نقطة مفصليّة في مشروع التقسيم.

مهّدت الرواية التاريخية الاستعماريّة لسرقة التاريخ الفلسطينيّ، وتجلّت حرب الرواية، في إبراز فلسطين على أنّها أرض خالية من السكّان، في مقولة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد ساهم الجانب الفوتوغرافيّ في الترويج لهذه الدعاية الاستعماريّة. وسَعَتْ إسرائيل أثناء احتلالها المدينة للترويج لروايتها المتعلّقة بالصراع وتاريخ البلاد، مستندة في ذلك إلى تحريف المناهج التعليميّة المعتمدة داخل مدارس القدس؛ إذ ظلّت تشنّ حربًا مستمرّة على وعي الناشئة. وقد أبرز الكتاب مسألة الحرب على المخيّلة والمناهج التعليميّة في فصول عديدة منها الثاني، والرابع، والخامس، والسادس.

 

الوجود الفلسطينيّ بوصفه تحدّيًا ديموغرافيًّا

إنّ آليّات السيطرة الّتي استخدمتها إسرائيل، لا تمتدّ إلى المقدّسات وحرب الرواية فحسب؛ فالتحدّي الأساسيّ الّذي واجه الحركة الصهيونيّة تمثّل أيضًا بوجود الفلسطينيّين على أرضهم، والواقع الديموغرافيّ- يُنْظَر الفصل السابع. لذلك، وضعت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة خططًا لتقليص أعداد الفلسطينيّين داخل المدينة والحدّ من النموّ الديموغرافيّ الفلسطينيّ فيها. ففي الخطّة الّتي أعدّتها بلديّة القدس عام 2002، حذّرت من النموّ السكّانيّ للعرب مقابل اليهود في القدس الشرقيّة؛ إذ توقّعت أن يصل عدد السكّان في المدينة إلى 60 في المئة من العرب، و40 في المئة من اليهود عام 2020[1]، وهو ما يُعَدّ مخالفًا للمخطّطات الإسرائيليّة الّتي تسعى لإبقاء التفوّق الديموغرافيّ بنسبة 70 في المئة من اليهود، و30 في المئة من العرب داخل القدس الشرقيّة[2].

مهّدت الرواية التاريخية الاستعماريّة لسرقة التاريخ الفلسطينيّ، وتجلّت حرب الرواية، في إبراز فلسطين على أنّها أرض خالية من السكّان، في مقولة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"...

وقد سعت لتحقيق هذا التفوّق موظِّفةً آليّات التطهير العرقيّ الّتي تقوم على مصادرة الأراضي لمصلحة بناء المستوطنات والمحميّات الطبيعيّة، ودَفْع الثقل السكّانيّ العربيّ إلى خارج حدود المدينة، وسَحْب الإقامات أيضًا. فالفلسطينيّون في القدس يخضعون لمنطق ’الإقامة المشروطة‘؛ إذ أقرّت إسرائيل العديد من القوانين الّتي تخوّلها سحب الإقامات ما لم تخضع لهذه القوانين. فبداية من عام 1967 حتّى نهاية عام 2016، ألغت وضع ما لا يقلّ عن 1495 فلسطينيًّا من القدس الشرقيّة[3]، مستخدمةً ذرائع ’قانونيّة’ سياسيّة ضمن ما يُسمّى «قانون خرق الولاء» وقانون «مركز الحياة». ومثل هذه القوانين تنسجم مع ما أملته إسرائيل من واقع على الأرض، ومحاولاتها تغيير حدود بلديّة القدس وتعديل القانون الأساس «القدس عاصمة إسرائيل» 2018، ليشمل مشروع القانون تعديلات فقرة إضافيّة متعلّقة بالقانون الأساسيّ، تسمح، من جملة أمور أخرى، بإجراء تغييرات مستقبليّة على الحدود البلديّة للقدس، بما في ذلك وضع الأحياء الفلسطينيّة ومنحها مجلسًا محلّيًّا منفصلًا.

تتخفّى سياسات التطهير العرقيّ داخل المدينة تحت ستار «القوانين الإدارية»؛ من تنظيم حضريّ، وهَدْم بيوت، لكنّ محتواها الأصليّ هو محتوًى سياسيّ مرتبط بتحقيق التطهير العرقيّ، وأغلبيّة يهوديّة متفوّقة، مثلما وضّح ذلك الفصل الثامن.

 

التحدّيات الاقتصاديّة واستعمار الأرض

يتطرّق الكتاب، كذلك، إلى الأوضاع الاقتصاديّة داخل المدينة. فالفقر والبطالة وتردّي الأوضاع الاقتصاديّة ما هي إلا نتائج للسياسات الاستعماريّة الّتي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيّين؛ إذ يرزح الفلسطينيّون تحت ثقل الاحتلال الّذي يحاصرهم بنظام يعيد إنتاج التطهير العرقيّ، مستعملًا أدوات اقتصاديّة أهمّها الضرائب المرتفعة، من دون تلقّي المقدسيّين خدمات ملائمة. وقد استخدمت إسرائيل السياحة، أيضًا، لترسيخ نظامها الاستعماريّ الاستيطانيّ. وهذا الوضع ليس عَرَضِيًّا، بل هو نتيجة للبنية الاستعماريّة الّتي تستخدم السياحة للترويج لروايتها الأيديولوجيّة عن المكان، وكذلك لسلب مداخيل السياحة من التجّار والفنادق الفلسطينيّة داخل المدينة؛ ما يؤدّي إلى إغلاق العديد من المتاجر والفنادق نتيجةً لعدم الإقبال السياحيّ عليها، كما وضّح ذلك الفصل التاسع.

يقدّم الكتاب كذلك قراءة نقدية متمثّلة في أحد مظاهر التطهير العرقيّ الأخرى الّتي مارستها إسرائيل في حقّ الأرض والموادّ الطبيعيّة، واستغلالها ذلك كلّه للترويج لـ ’إنجازاتها البيئيّة‘، و"جعل الصحراء تتفتّح" وفق رؤية دافيد بن غوريون؛ إذ يرى بعضهم أنّ إسرائيل نجحت في بناء نموذج عالميّ لتطبيق التكنولوجيا الحديثة، في التقدّم الزراعيّ البيئيّ ما بعد الكيبوتسيّ الاستيطانيّ الزراعيّ العسكريّ، وأنّ هذا النموذج من الممكن تطبيقه عالميًّا في أرض صحراويّة قاحلة كانت تتفشّى فيها أمراض مثل الملاريا والتيفوئيد والكوليرا[4].

يقدّم الكتاب كذلك قراءة نقدية متمثّلة في أحد مظاهر التطهير العرقيّ الأخرى الّتي مارستها إسرائيل في حقّ الأرض والموادّ الطبيعيّة، واستغلالها ذلك كلّه للترويج لـ ’إنجازاتها البيئيّة‘...

مكّنت القوانين البيئيّة من استغلال المساحات الخضراء والمفتوحة، بوصفها أداةً من أدوات الاستعمار الاستيطانيّ، من تهويد أحياء القدس الشرقيّة ومحيط المدينة، وإبعاد المقدسيّين وحرمانهم من مصادر رزقهم على نحو ما بيّن ذلك الفصل العاشر.

يُبْرِزُ هذا الكتاب كذلك أساليب مواجهة المقدسيّين، الأصلانيّين، لمنطق الاستعمار الاستيطانيّ وأساليبه المختلفة أيضًا، وذلك بتسليط الضوء على أدوار الفاعلين المجتمعيّين- يُنْظَر الفصلان السادس والحادي عشر- ويختتم الكتاب بالتحدّيات الّتي تواجهها المدينة من جهة السياسة الدوليّة والقانون الدوليّ؛ ذلك أنّه عَكَسَ تحدّيات أخيرة متعلّقة بنقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس، ومواقف دوليّة من هذا القرار. وأنّه تعرّض كذلك للقانون الدوليّ وموقع المدينة فيه؛ فالقانون الدوليّ واضح بشأن وضع مدينة القدس، بوصفها مدينة محتلّة؛ فقد اسْتُكْمِل احتلال المدينة - القدس الشرقيّة - في حزيران (يونيو) 1967، ولم يتغيّر وضعها في هذا القانون، على الرغم من تصريحات الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب، واعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونَقْل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس. لكن بخلاف ما ينصّ عليه القانون الدوليّ، فإنّ ما تحاول إسرائيل تثبيته على الأرض هو الوجود المطلق للاحتلال بوصفه نظامًا مهيمنًا يميّز تمييزًا جذريًّا بين مجتمع المستوطنين والشعب المحتلّ، فضلًا عمّا تحاول إسرائيل فرضه على واقع المدينة.

 


 

إحالات

[1] وفقًا للتقرير السنويّ الصادر عن «معهد القدس لبحث السياسات»، بلغت نسبة السكّان العرب عام 2019 في القدس الشرقيّة 61 في المئة مقابل 39 في المئة بالنسبة إلى اليهود. يُنْظَر: ميخال كورح ومايا حوشن، معطيات عن أورشليم القدس 2021 (القدس: معهد القدس لبحث السياسات، 2021)، ص 21، شوهد في 14/11/2021، في: https://bit.ly/3RZsGby

[2] Moshe Cohen et al., The Proposed Plan and the Main Planning Policies, Report No. 4, Local Outline Plan, Prepared for Jerusalem Municipality (Jerusalem: 2000), accessed on 14/11/2022, at: https://bit.ly/3OxKjfL

[3] "Israel Continues Its 'Quiet Deportation,' Policy: In 2016, The Ministry of Interior Revoked the Residency Status of 95 Palestinians from East Jerusalem," Hamoked, 6/4/2017, accessed on 14/11/2021, at: https://bit.ly/3hslA1t

[4] يُنْظَر على سبيل المثال: Danielle Abraham et al., "How Israel Became a World Leader in Agriculture and Water," Tony Blair Institute for Global Change, September 2019, accessed on 14/11/2021, at: https://bit.ly/3zYxQxj

 


 

المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات

 

 

 

مؤسّسة بحثيّة عربيّة مستقلّة للعلوم الاجتماعيّة والعلوم الاجتماعيّة التطبيقيّة والتاريخ الإقليميّ والقضايا الجيوستراتيجيّة. تأسّست عام 2010 ومقرّها الدوحة، قطر.